بدأت نتائج اتفاق الهدنة المرحلي بين تنظيمي داعش والقاعدة في مالي تتحقق على أرض الواقع، وأهمها عزل شمال البلاد عن جنوبها واستعادة القدرة على مهاجمة جيش مالي في مناطق سيطرته، فضلا عن إضعاف ثقة المواطنين بالقيادة العسكرية الحاكمة وتعميم حالة انعدام الأمن والاستقرار.
أدى اتفاق الصلح ووقف القتال بين تنظيمي القاعدة وداعش في مالي مؤخرا إلى نتائج سريعة على الأرض، وهو ما لُوحظ من خلال تنامي تهديدهما لأمن بعض دول المنطقة، ووصولهما إلى موارد البلاد، وتمكنهما من توسيع نطاق سيطرتهما الجغرافية، ومضاعفة قدرتهما على إحداث الضرر بمالي ومحيطها الجغرافي المضطرب.
وساعدت الهدنة بين التنظيمين الإرهابيين اللدودين على التفرغ لتنفيذ الخطط الخاصة بكليهما على حدة، والتركيز على قتال العدو المشترك لهما وهو قوات الأمن في مالي، وعناصر ميليشيات فاغنر الروسية.
وظهرت انعكاسات اتفاق الهدنة بين القاعدة وداعش في مالي، على حجم العمليات ونوعية الهجمات التي شُنت مؤخرًا، حيث أعلنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (فرع القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي) عن اقتحام مقرات حكومية هامة مثل مطار العاصمة وحدات عسكرية حساسة حيث قتل ف وجرحت في هجومها العديد من العسكريين مع تدمير عدة طائرات قتالية ومعدات حربية، وفي الرابع من مايو العام الماضي سيطرتها على قاعدة تابعة للجيش في ولاية موبتي، وقبلها قتلت عشرة عناصر في ميليشيا موالية للنظام في شمال مالي.
ويتيح تقاسم مناطق النفوذ، وفقًا لخطط جغرافية أكثر وضوحآ على المدى البعيد، مضاعفة المساحات الجغرافية التي يسيطران عليها مع احترام كل منهما لمناطق نفوذ الآخر.
ويخدمهما وقف الصراع وتكريس الهدنة والتنسيق الميداني في تعظيم وجودهما بعيدًا عن مناطق التنازع السابقة بينهما والانشغال بالتوسع على حساب مناطق تقع تحت سيطرة القوات الحكومية، بدلًا من استنزاف بعضهما والتقاتل على بسط النفوذ على أراض يسيطران عليها بالفعل.
وأعقب تدشين اتفاق الهدنة مباشرة تنفيذ الهجوم النوعي المزدوج على قاعدة للجيش بالقرب من كوالا، قبل يومين حيث قُتل أكثر من ثلاثين جنديا بعد هجوم نفذه مئة مسلح من الموالين لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وسبقته مباشرة عملية انتحارية بسيارة مفخخة.
وأظهر فرعا القاعدة وداعش في مالي منذ نهاية العام الماضي ميلًا للتعاون بعد صراعات دامية أحيانا واشتباكات عَرَضية أحيانًا أخرى. فعلى الرغم من الظروف المواتية لكليهما لتحقيق انتصارات كبيرة عانيا من هزائم في عديد من المناطق، وبالكاد حافظا على وجودهما ولم يحرزا توسعًا كبيرًا إلا بعد الانتقال للحكم العسكري في مالي واضطرار القوات الغربية إلى الرحيل، وصولًا إلى بدء إحراز تقدم أكبر بعد تكريس الهدنة بينهما.
وتمكّن أهمية الهدنة بين الكيانين المتمردين ووقف إطلاق النار بينهما في منطقة ميناكا شرقي مالي فرع القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، من تحقيق الهدف الرئيسي في المرحلة الراهنة، والمتمثل في عزل شمال البلاد عن جنوبها واستعادة القدرة على مهاجمة جيش مالي في مناطق سيطرته.
ويحاول تنظيم القاعدة في مالي إضعاف ثقة المواطنين في القيادة العسكرية الحاكمة وخلق فراغ في السلطة وتعميم حالة انعدام الأمن والاستقرار عبر مواصلة شن هجمات نوعية ضد القوات الحكومية وتعطيل الأنشطة الاقتصادية وعزل حواضر المقاطعات وتقويض البنية التحتية وقطع بعض الطرق الرئيسية، وإنشاء مناطق دعم بمواقع إستراتيجية قريبة من مدن رئيسية في المقاطعات.
ويهدف فرع القاعدة من وراء تنفيذ هذه النوعية من التكتيكات إلى حصار الحكومة المركزية وتأكيد عجزها عن توفير الأمن والخدمات الأساسية للسكان، وصولًا إلى إسقاط وتحييد سلطة الدولة في العاصمة باماكو.
ويتيح هذا التطور لفرع داعش في الساحل الأفريقي التمتع بقدرات أكبر لتعزيز سيطرته على مناطقه والتحرك باتجاه السيطرة على مناطق أخرى، وهو ما يتحقق بالتنسيق مع تنظيم القاعدة الذي يسيطر على مناطق موزعة على الشمال قريبًا من الحدود مع الجزائر، والوسط (منطقة موبتي) وحتى حدود موريتانيا جنوبًا تحت سيطرة كتائب تحرير ماسينا وزعيمها القوي أمادو كوفا.
وضاعف فرع داعش في مالي من مساحة الأراضي التي يسيطر عليها بين عام 2022 والنصف الأول من عام 2023، مُستفيدًا من الانسحاب الطوعي لفرع القاعدة من مناطق في شمال شرقي مالي، ما مكنه من حصار العاصمة الإقليمية ميناكا ومزاولة نشاط تجاري واسع، وفرض ضرائب داخل وخارج المدينة وفي العديد من المناطق الريفية.
ويعوّل فرع داعش في مالي (ولاية الساحل) الذي يعمل بشكل أساسي في منطقة الحدود الثلاثية ليبتاكو غورما بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر على التنسيق والتعاون الميداني مع فرع القاعدة القوي في المنطقة للتعافي من آثار انتكاسات سابقة وتعويض فقدانه للكثير من القادة العسكريين، وآخرهم قائد عملياته العسكرية مالام موسى.
ويزيد من فوائد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين جراء إنهاء صراعها مع فرع داعش، تعاونها الصاعد مع تنسيقية الحركات الأزوادية الانفصالية، والذي ظهر جليًا في عدد من الهجمات المنظمة والمواجهات التي جرت بينهما وبين القوات الحكومية أو ضد عناصر قوات فاغنر.
وجاءت الهدنة بين فرعي داعش والقاعدة في مالي وتفرغهما لصراعهما مع القوات الحكومية وشركائها المدعومين من روسيا في وقت تعاني فيه السلطة العسكرية في باماكو من عزلة محلية، عقب مقاطعة الأحزاب السياسية وجماعات مسلحة بالشمال للحوار الوطني الشامل الذي دعا إليه رئيس المجلس العسكري العقيد أسيمي غويتا في منتصف أبريل الماضي.
ويستفيد فرعا القاعدة وداعش من الجمود السياسي لتعزيز مكاسبهما وفتح ثغرات في مناطق لا تقع تحت سيطرتهما وخلق المزيد من الاضطرابات والتوترات وتوسيع نطاق المواجهات في الشمال والوسط والجنوب.
ومن المرجح في المرحلة المقبلة أن تتوسع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (فرع القاعدة في مالي) في عمليات قطع الطرق الرئيسية واعتراض الحافلات وخطف الرهائن لتحقيق أرباح مادية سريعة بعد الحصول على فدى مقابل إطلاق سراحهم، وهو النشاط الذي بدأته في نوفمبر العام الماضي وزادت وتيرته في أبريل الماضي لمضاعفة الشعور بالإحباط لدى قطاعات واسعة من المواطنين ودفعهم لتمرد والعصيان على الحكومة، وإنشاء مناطق دعم لوجيستي لها وسط البلاد.
وفيما يحدث التقارب والتنسيق بين الجماعات الإرهابية يخسر الحكم العسكري في مالي الحد الأدنى من التوافق الداخلي ومن الهدوء على جبهة المواجهة من الانفصاليين الأزواد بعد تنصل المجلس العسكري الحاكم مؤخرا من اتفاقية الجزائر، ما اعتبرته فصائل مسلحة إعلان حرب.
وبعد فشل الدعوة إلى حوار وطني يشمل مختلف مكونات الساحة السياسية بمقاطعة الأحزاب له في أبريل الماضي، وتنامي التحديات والتهديدات الأمنية بعد إقرار الهدنة بين داعش والقاعدة، من المتوقع أن يتزايد الاحتقان الشعبي الذي ربما يقود إلى عصيان مدني تدعو إليه تكتلات معارضة، وهو الأسلوب الذي أسقط في السابق نظام إبراهيم بوبكر كيتا عام 2020 ومن قبله نظام موسى تراوري عام 1991.
ومن غير المستبعد أن ينضم بعض القادة العسكريين للحراك المُفترض الذي ترجح حدوثه الحالة الاقتصادية والصحية المتردية، فضلًا عن عدم حدوث تغير على مستوى مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن والاستقرار، وتحسن الوضع المعيشي، بعد طرد القوات الغربية وجلب عناصر روسية مهتمة بالسيطرة على الموارد لتعويض خسارة موسكو من العقوبات الدولية.
إضافة تعليق جديد